دين الأنبياء واحد: رحلة تفصيلية في رسالة السماء الخالدة من آدم إلى محمد ﷺ
<!-- picks: Collepedia -->
في خضم تعدد الشرائع وتنوع الأمم واختلاف الألسنة، يبرز سؤال جوهري شغل العقول والقلوب عبر العصور: هل بعث الله كل نبي بدين مختلف؟ هل كانت رسالة نوح تختلف في جوهرها عن رسالة إبراهيم؟ وهل جاء موسى بما يناقض دعوة عيسى، ثم أتى محمد بدين جديد ينسف كل ما قبله؟ إن الإجابة القاطعة التي يقدمها الوحي الخاتم، القرآن الكريم، تهدم هذا التصور وتؤسس لحقيقة راسخة مهيبة: إن الدين عند الله الإسلام. ليس كمسمى لحقبة تاريخية، بل كحقيقة كونية ومنهج حياة قائم على التسليم المطلق لرب العالمين.
هذا المقال ليس مجرد سرد تاريخي، بل هو غوص في أعماق النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، مستنيرين بتفاسير جهابذة العلم كالشيخ محمد متولي الشعراوي، ومستندين إلى الدقة العلمية لمواقع موثوقة كالدرر السنية وإسلام ويب، لنكشف بالدليل والبرهان عن الخيط الذهبي الذي يربط جميع الرسالات السماوية: عقيدة التوحيد الخالص، والدعوة إلى عبادة إله واحد لا شريك له. سنبحر معًا في رحلة إيمانية عبر آلاف السنين، لنرى كيف نطق آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، وجميع من بينهم من الأنبياء والرسل، بكلمة واحدة خالدة: "لا إله إلا الله".
الفصل الأول: الأساس الذي قامت عليه كل الرسالات: التوحيد الخالص
لم تكن رسالات السماء يومًا مجموعة من الطقوس المتنافرة أو العقائد المتضاربة. بل كانت سلسلة متصلة الحلقات، كل حلقة فيها تؤكد ما قبلها وتمهد لما بعدها، وجميعها تدور حول محور واحد لا يتغير ولا يتبدل: توحيد الله وإفراده بالعبادة. هذا هو الأساس الذي بُعث من أجله كل نبي، وأُنزلت من أجله كل الكتب. إنها القضية الكبرى التي من أجلها خُلقت السماوات والأرض، وقامت عليها دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم.
يقرر القرآن هذه الحقيقة بشكل لا يقبل الشك أو التأويل، في آية جامعة مانعة، حيث يقول سبحانه وتعالى:
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (النحل: 36)
يوضح الشيخ الشعراوي في تفسيره لهذه الآية أن الغاية من بعثة الرسل جميعًا، دون استثناء، هي تحقيق هدفين متلازمين: الأمر بعبادة الله وحده (الأمر الإيجابي)، والنهي عن عبادة كل ما سواه من الطواغيت (الأمر السلبي). فالعبادة لا تستقيم إلا بالبراءة من الشرك. وهذه الدعوة لم تكن خاصة بأمة دون أمة، أو نبي دون نبي. إنها دعوة عالمية خالدة.
ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى في سورة الأنبياء، في خطاب مباشر لنبيه محمد ﷺ، ولكنه يحمل في طياته قانونًا عامًا لكل الرسالات:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (الأنبياء: 25)
هنا، يأتي النفي القاطع "وَمَا أَرْسَلْنَا"، ثم الاستثناء "إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ"، ليحصر مهمة كل رسول جاء قبل النبي محمد ﷺ في حقيقة واحدة أوحيت إليهم جميعًا: "أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ". هذا هو جوهر الدين، ولب الرسالة، وأساس العقيدة التي لم تتغير ولم تتبدل. اختلفت الشرائع في الفروع والتفاصيل العملية لتناسب أقوامها وأزمنتها، ولكن هذا الأصل - التوحيد - بقي ثابتًا كالجبال الرواسي.
جدول مقارن لدعوة التوحيد عند كبار الأنبياء في القرآن
لتتضح الصورة بشكل أكبر، دعونا نستعرض كيف قص القرآن الكريم دعوة كبار أولي العزم من الرسل، وكيف كانت كلها تصب في نفس المصباح: مصباح التوحيد.
النبي/الرسول | الآية القرآنية التي تلخص دعوته للتوحيد | السورة والآية | ملاحظات وتفسير موجز |
---|---|---|---|
نوح عليه السلام | "لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ" | الأعراف: 59 | أول رسول أُرسل إلى أهل الأرض بعد أن عبدوا الأصنام. كانت بداية دعوته ونهايتها هي الأمر بعبادة الله وحده ونفي أي إله سواه. |
هود عليه السلام | "وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ" | الأعراف: 65 | نفس الكلمات، نفس الرسالة، ونفس الدعوة التي أتى بها نوح من قبله، مما يؤكد على وحدة المصدر والغاية. |
صالح عليه السلام | "وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ" | الأعراف: 73 | تكرار نفس الصيغة القرآنية للمرة الثالثة على التوالي مع أقوام مختلفة ورسل مختلفين هو تأكيد إلهي على أن هذه هي الكلمة السواء التي اجتمعوا عليها. |
إبراهيم عليه السلام | "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ" | الزخرف: 26-27 | أبو الأنبياء وإمام الموحدين، يعلن براءته من كل المعبودات الباطلة، ويحصر عبادته في الله الذي خلقه. هذا هو تعريف "لا إله إلا الله". |
موسى عليه السلام | "إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي" | طه: 14 | هذا هو أول ما أوحى الله به إلى موسى عند الشجرة المباركة. التوحيد أولًا، ثم تأتي الأوامر العملية كالصلاة. |
عيسى عليه السلام | "مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ" | المائدة: 117 | شهادة المسيح نفسه يوم القيامة أنه لم يأمر قومه إلا بما أمره الله به: عبادة الله الذي هو ربه وربهم. وهذا ينفي كل ما نُسب إليه من ألوهية أو بنوة. |
محمد صلى الله عليه وسلم | "قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ" | الكهف: 110 | خلاصة دعوة خاتم المرسلين: تأكيد بشريته، وأن مهمته هي الوحي، ومضمون هذا الوحي هو أن الإله المعبود بحق هو إله واحد. |
الفصل الثاني: الإسلام هو دين إبراهيم الخليل وملته
يحتل نبي الله إبراهيم عليه السلام مكانة محورية في تاريخ الرسالات. فهو "أبو الأنبياء"، حيث جاء من نسله أنبياء بني إسرائيل (إسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وغيرهم) وخاتم الأنبياء محمد ﷺ من نسل إسماعيل. وقد أكد القرآن الكريم في مواضع عديدة وبشكل صريح لا لبس فيه على هوية دين إبراهيم، واصفًا إياه بأنه كان "مسلمًا حنيفًا".
إن التركيز القرآني على ملة إبراهيم لم يكن اعتباطيًا. فالعرب في الجاهلية كانوا يدّعون أنهم على ملة إبراهيم، وكذلك اليهود والنصارى كانوا ينسبون أنفسهم إليه. فجاء القرآن ليصحح هذه المفاهيم، ويبين حقيقة ملة إبراهيم التي انحرف عنها الجميع، وليؤكد أن أولى الناس بإبراهيم هم الذين اتبعوه حقًا على التوحيد، وعلى رأسهم النبي محمد ﷺ والذين آمنوا معه.
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (آل عمران: 67)
هذه الآية بمثابة إعلان فاصل. ينفي الله عن خليله أن يكون يهوديًا أو نصرانيًا، لأن اليهودية والنصرانية كشرائع ظهرت بعده بقرون طويلة، وما لحقهما من تحريفات عقدية أخرجتهما عن جادة التوحيد الصافي الذي كان عليه إبراهيم. ثم يثبت له الصفة الحقيقية: "حَنِيفًا مُّسْلِمًا". الحنيف هو المائل عن الشرك عمدًا إلى التوحيد قصدًا. والمسلم هو المستسلم المنقاد لأمر الله. ثم ينفي عنه النقيض "وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" ليزيل أي شبهة.
والأمر لم يكن مجرد وصف من الله له، بل هو حقيقة أعلنها إبراهيم نفسه ووصى بها بنيه من بعده. تأمل هذا الحوار الإيماني العظيم الذي يقصه القرآن:
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (البقرة: 131-132)
الأمر الإلهي واضح: "أَسْلِمْ". والإجابة الفورية من الخليل تدل على كمال الانقياد: "أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ". ثم لم يبخل بهذه النعمة على ذريته، بل جعلها وصيته الخالدة هو وابنه يعقوب (إسرائيل) لأبنائهم: أن يثبتوا على هذا الدين - دين الإسلام - حتى الممات. هذا يثبت أن "الإسلام" ليس اسمًا طارئًا، بل هو حقيقة الدين الذي ارتضاه الله واصطفاه لأنبيائه وأوليائه.
الفصل الثالث: شهادة الأنبياء على إسلامهم وإسلام أتباعهم
لم يقتصر الأمر على وصف الله للأنبياء بأنهم مسلمون، بل جاءت الشهادة على ألسنتهم وألسنة أتباعهم الصادقين، ليقروا بهذه الحقيقة ويعلنوها للعالمين. القرآن الكريم، بصفته الكتاب المهيمن والمصدق لما بين يديه من الكتب، ينقل لنا هذه الشهادات التاريخية الحاسمة.
يوسف الصديق ودعاؤه الخالد
بعد أن أتم الله نعمته على يوسف عليه السلام، وجمع شمله بأهله، ومكّن له في الأرض، لم يغتر بالملك والسلطان، بل توجه إلى ربه بهذا الدعاء الذي يكشف عن عمق إيمانه وحقيقة دينه:
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (يوسف: 101)
إن غاية أمنية نبي الله يوسف، بعد كل ما نال من عز الدنيا، هي أن يتوفاه الله على حالة "الإسلام"، وأن يلحقه بركب الصالحين من آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب. هذا الدعاء دليل ساطع على أن الإسلام (الاستسلام لله) كان هو الدين الذي يدين به ويعتز به، وهو أسمى غاياته.
سحرة فرعون ولحظة التحول العظيم
من أروع القصص التي يرويها القرآن عن قوة الإيمان، قصة سحرة فرعون. جاؤوا لينازلوا موسى ويحظوا بمكانة عند فرعون، فلما رأوا آية الله الكبرى وخروا ساجدين، تحولوا في لحظة من مرتزقة إلى شهداء. وعندما هددهم فرعون بالقتل والصلب، كان ردهم كاشفًا عن الدين الذي اعتنقوه للتو:
وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا ۚ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (الأعراف: 126)
لقد فهموا في لحظات ما لم يفهمه فرعون وملؤه في سنين. فهموا أن الحقيقة هي الإيمان بالله رب العالمين، رب موسى وهارون. وكانت خاتمة دعائهم هي نفس دعاء يوسف الصديق: أن يموتوا على الإسلام. هذا يثبت أن دعوة موسى كانت هي الدعوة إلى الإسلام.
حواريو عيسى وإعلان الولاء
عندما تحدث القرآن عن نبي الله عيسى عليه السلام، قدمه كرسول من بني إسرائيل، جاء مصدقًا لما بين يديه من التوراة، ومبشرًا برسول يأتي من بعده اسمه أحمد. وعندما أحس عيسى الكفر من بعض بني إسرائيل، توجه إلى صفوته من أتباعه (الحواريين) بسؤال حاسم:
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (آل عمران: 52)
إجابة الحواريين كانت واضحة وصريحة. لم يقولوا "نحن نصارى" أو أي اسم آخر. بل أعلنوا إيمانهم بالله، وطلبوا من نبيهم عيسى أن يشهد لهم بأنهم "مسلمون". هذا النص القرآني قطعي الدلالة على أن أتباع المسيح الحقيقيين، في حياته، كانوا يعرفون أنفسهم بأنهم مسلمون، أي مستسلمون لله.
ملكة سبأ وإسلامها مع سليمان
حتى في قصة سليمان عليه السلام مع ملكة سبأ، نرى نفس النتيجة. بعد أن رأت دلائل النبوة والملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده، أعلنت استسلامها لله، منضمة إلى دين نبي الله سليمان:
قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (النمل: 44)
لم تقل "تهودت" أو اتبعت دين سليمان كدين خاص، بل قالت "أسلمت"، وربطت إسلامها بإسلام سليمان، وجعلت غايته "لله رب العالمين"، مما يؤكد على عالمية هذا الدين ووحدته.
الفصل الرابع: وحدة العقيدة وتنوع الشرائع: حكمة إلهية
قد يطرح سائل سؤالًا منطقيًا: إذا كان الدين واحدًا، فلماذا كانت هناك توراة وإنجيل وقرآن؟ ولماذا اختلفت بعض الأحكام بين شريعة موسى وشريعة عيسى وشريعة محمد عليهم جميعًا أفضل الصلاة والسلام؟
الجواب يكمن في التفريق الدقيق بين "الدين" و"الشريعة". هذا التفريق هو مفتاح فهم وحدة الرسالات. الدين واحد، والشرائع متعددة.
- الدين (العقيدة): هو الأصول الكبرى والإيمانيات الأساسية التي لا تتغير ولا تتبدل، وعلى رأسها توحيد الله، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. هذه الأصول ثابتة في كل الرسالات، لأنها حقائق مطلقة لا تتأثر بزمان أو مكان.
- الشريعة (المنهاج): هي الأحكام العملية والتكاليف الفرعية التي تنظم حياة الناس في معاملاتهم وعباداتهم وطعامهم وشرابهم. هذه الأحكام تتغير بحكمة من الله لتناسب أحوال كل أمة وما يصلح لها في زمانها.
يوضح القرآن هذه الحقيقة ببراعة في قوله تعالى:
لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ (المائدة: 48)
يقول الشيخ الشعراوي في تفسير هذه الآية: "الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا أن هناك أمورًا ثابتة في كل الأديان وهي أمور العقيدة... ولكن هناك أمورًا تختلف باختلاف الزمان والمكان وهي الأحكام". فالله بحكمته جعل لكل أمة شريعة تناسبها، ولو شاء لجمع الناس على شريعة واحدة، ولكنه جعل هذا التنوع ابتلاءً واختبارًا، وحث الجميع على المسارعة في تطبيق الخير الذي أُمروا به.
وقد ضرب النبي محمد ﷺ مثلًا رائعًا يوضح هذه العلاقة بين الأنبياء، حيث قال:
"إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ" (متفق عليه)
هذا الحديث، كما تشير "الدرر السنية"، يصور بناء الدين كبناء واحد متكامل. الأنبياء السابقون وضعوا لبنات هذا البناء (أساس العقيدة وأركان الشرائع)، وجاء النبي الخاتم ﷺ فوضع اللبنة الأخيرة التي بها اكتمل البناء وتم حسنه وجماله. فالشريعة الإسلامية التي جاء بها محمد ﷺ هي الشريعة الخاتمة، الكاملة، الصالحة لكل زمان ومكان، وهي التي نسخت ما قبلها من الشرائع الفرعية، مع إقرارها وتصديقها للأصل العقدي الواحد الذي جاء به كل الأنبياء.
الفصل الخامس: القرآن الكريم: الكتاب المهيمن وخاتمة الرسالات
بعد أن استعرضنا وحدة الدين عبر العصور، نصل إلى المحطة الأخيرة في قافلة النور: رسالة النبي محمد ﷺ والقرآن الكريم. لم يأتِ القرآن بدين جديد، بل جاء مصدقًا لما بين يديه من الكتب ومهيمنًا عليه. هذه الهيمنة تعني أنه الحكم النهائي على ما تبقى من صحة في الكتب السابقة، وكاشف لما دخل عليها من تحريف وتبديل، وحافظ للأصول التي بعث بها جميع المرسلين.
وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ (المائدة: 48)
هيمنة القرآن تتجلى في عدة جوانب:
- التصديق: يصدق القرآن على أصل التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم، ويؤمن المسلمون بها ككتب منزلة من عند الله في صورتها الأصلية.
- التصحيح: يصحح القرآن المفاهيم الخاطئة والعقائد المنحرفة التي أُلحقت بالديانات السابقة، مثل تأليه المسيح أو عزير، أو قولهم يد الله مغلولة.
- الإتمام: يأتي القرآن بالشريعة الكاملة والخاتمة التي تناسب البشرية كلها إلى يوم القيامة. فهو يكمل البناء الذي بدأه الأنبياء من قبل.
- النسخ: ينسخ القرآن أحكام الشرائع السابقة التي كانت مؤقتة ومخصصة لأقوام معينين، ويحل محلها أحكام الشريعة الإسلامية العامة والدائمة.
إن إعلان اكتمال الدين في حجة الوداع لم يكن إعلانًا عن بداية دين، بل عن اكتمال بناء الدين الذي بدأ مع آدم عليه السلام.
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (المائدة: 3)
هذا "الإسلام" الذي رضيه الله لنا في صورته الكاملة، هو نفسه دين إبراهيم ونوح وموسى وعيسى، وقد وصل إلينا صافيًا نقيًا، محفوظًا بحفظ الله للقرآن الكريم، ليكون حجة على العالمين إلى يوم الدين.
الأسئلة الشائعة (FAQs)
س1: هل هذا يعني أن اليهود والنصارى اليوم يعتبرون مسلمين؟
ج: لا. المفهوم الذي شرحناه هو أن دين الأنبياء الأصلي الذي جاء به موسى وعيسى عليهما السلام كان هو الإسلام (التوحيد والاستسلام لله). لكن اليهودية والنصرانية المعاصرة، بما فيهما من تحريفات عقدية كعقيدة التثليث أو البنوة أو رفض نبوة محمد ﷺ، تختلف جوهريًا عن ذلك الدين الأصلي. الإسلام كدين خاتم يشترط الإيمان بجميع الأنبياء والرسل، بما فيهم خاتمهم محمد ﷺ. فمن كفر بنبي واحد فقد كفر بالأنبياء جميعًا، لأنه كذب بالذي أرسلهم وهو الله سبحانه. قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا".
س2: ما هو الدليل القاطع على أن دعوة جميع الأنبياء كانت واحدة؟
ج: الدليل القاطع هو القرآن الكريم نفسه. الآيات التي ذكرناها في المقال مثل قوله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ" (الأنبياء: 25)، وقوله: "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ" (النحل: 36) هي أدلة قطعية لا تحتمل التأويل. بالإضافة إلى قصص الأنبياء التي يسردها القرآن وتظهر جميعها بنفس الدعوة إلى التوحيد.
س3: إذا كانت الشرائع تختلف، فهل يعني هذا أن بعضها كان أفضل من بعض؟
ج: كل شريعة أنزلها الله كانت هي الأفضل والأنسب للقوم الذين أُنزلت إليهم في زمانهم. فالله هو الأعلم بما يصلح لعباده. ولكن مع بعثة النبي محمد ﷺ للبشرية كافة، أصبحت شريعته هي الكاملة والخاتمة والواجبة الاتباع على جميع الناس إلى يوم القيامة، لأنها الشريعة التي ارتضاها الله للعالمين في صورتها النهائية.
س4: كيف نوفق بين وحدة الدين وبين وجود أسماء مختلفة مثل "اليهودية" و"النصرانية"؟
ج: هذه الأسماء هي تسميات حادثة، لم ترد على لسان موسى أو عيسى عليهما السلام. "اليهودية" نسبة إلى يهوذا أحد أسباط بني إسرائيل، أو ربما من الهود أي التوبة. و"النصرانية" نسبة إلى قرية الناصرة التي عاش فيها المسيح. أما الاسم الذي ارتضاه الله لدينه فهو "الإسلام"، كما قال عن إبراهيم "كان حنيفًا مسلمًا"، وكما قال الحواريون "واشهد بأنا مسلمون"، وكما قال في ختام رسالته "ورضيت لكم الإسلام دينًا".
خاتمة: دعوة للتفكر والعودة إلى الأصل
إن إدراك حقيقة أن دين الأنبياء واحد هو مدعاة لتعظيم الله سبحانه وتعالى، الذي لم يترك البشرية سدى، بل أرسل إليهم الرسل تترى، برسالة واحدة واضحة: اعرفوا ربكم ووحدوه، وأقيموا العدل والإحسان في الأرض. وهو مدعاة لمحبة جميع أنبياء الله ورسله، فهم جميعًا إخوة حملوا نفس الهم، وبلغوا نفس الرسالة، وصبروا على نفس الأذى في سبيلها.
وهو قبل كل شيء، دعوة لكل باحث عن الحق، ولكل منصف، أن يتجرد من الموروثات والأسماء، وأن ينظر في رسالة القرآن الكريم الخاتمة، ليرى فيها صدى دعوة نوح، ونقاء ملة إبراهيم، ووصايا موسى، وروحانية عيسى، وقد اجتمعت كلها في أكمل وأجمل صورة، في دين الإسلام الذي هو استسلام القلب والعقل والجوارح لرب العالمين.
ندعوك لقراءة القرآن بتدبر، ودراسة سيرة خاتم الأنبياء محمد ﷺ، لترى بنفسك كيف أن رسالته هي الامتداد الطبيعي والختام المسك لكل رسالات السماء. شارك هذا المقال لتعم الفائدة، وكن جزءًا من إيصال هذه الحقيقة العظيمة للعالمين.